كتاب نظرية الوجود بين الوجودية وأصالة الوجود: دراسة مقارنة بين هايدغر والملا صدراالمكتبة التجريبية

كتاب نظرية الوجود بين الوجودية وأصالة الوجود: دراسة مقارنة بين هايدغر والملا صدرا

مع الفلسفة الوجوديّة تحوّل الاهتمام من نظريّة المعرفة والبحث الفلسفي المعرفيّ، إلى الاهتمام بحاقّ الوجود؛ أي الاهتمام بالوجود ذاته. وقد أدّى هذا التحوّل إلى دخول الفلسفة الغربيّة في مسار مختلفٍ وترك بصماتٍ عظيمة الأثر على هذه الفلسفة. كما إن الفلسفة الإسلامية طرأ عليها أمرٌ مشابهٌ مع التحوّل الذي أحدثته مدرسة الحكمة المتعالية؛ حيث مركز الاهتمام إلى الوجود بعد ما كان الهمّ الفلسفيّ همًّا ماهويًّا يحصر اهتمامه بالتفسير الماهويّ للوجود. وتكمن أهميّة هذا التحوّل في الأثر الذي تركه على مسائل الفلسفة كلّها. ويبدو في النظرة الأوليّة أنّ المسارين متشابهين، بل ربّما يحسب الناظر أنّ ثمة مسارًا واحدًا اعتُمد في الفلسفتين، ينبغي أن يؤدّي إلى نتائج مشتركة بينهما. وفي هذه المقالة بحثُ مسهبٌ عن مفهوم الوجود عند المدرستين بغاية المقارنة بينهما، لاكتشاف نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق بينهما يجري ذلك على صعيد المفهوم، وكذلك على مستوى خلفيات التحوّل، فضلاً عن النتائج التي أفضى إليها هذا التحوّل. ثمّة وجوه تشابه كثيرة واتحاد مشهود في عددٍ من المسائل والعناوين التي يتعرّض لها الفلاسفة في دراساتهم وأبحاثهم الفلسفيّة، ما يدعونا إلى الإحساس الأوليّ بأنّ هذه الأبحاث ما هي سوى آراء وأجوبة مختلفة عن سؤالٍ واحدٍ؛ ولكن على الرغم من هذا الفهم الأوّلي فإنّ الواقع يختلف عمّا يبدو عليه لأوّل وهلةٍ، ويكشف التأمّل والتدقيق عن معنًى آخر لهذا التشابه. وهذا الاختلاف بين سطح المسائل وقعرها يثير صعوباتٍ جمّةً لمن يرغب في المقارنة بين مدرستين فلسفيّتين في ما يرتبط بمفهوم واحدٍ. وفي ما يأتي نكتفي ببعض الملاحظات الموجزة ونطوي كشحًا عن التفصيل والخوض في غمار بيان تعقيدات مثل هذه المقارنة. الخلفية التاريخيّة لتشكّل المفهوم الواحد: إنّ كثيرًا من المفاهيم المطروحة على بساط البحث في نظامٍ فلسفيٍّ، تحمل على عاتقها أعباء وتبعات ظروف تاريخيّة وثقافية أدّت إلى ظهورها، الأمر الذي لا يمكن تجاهله بسهولة. وتقبع إلى جانب المفهوم مجموعة من العناصر والمفاهيم المؤثّرة في بيانه وتوضيحه. ولهذه الخصوصية أثرٌ مهمٌّ في المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. ومفهوم الوجود واحدٌ من هذه المفاهيم التي طُرِحت في الغرب في سياق تاريخيٍّ يجعل النظر إليه وحده من دون الظروف التي أحاطت بولادته وتشكّله أمرًا غيرَ علميٍّ، وذلك أنّه وُلِد في بيئة معرفيّةٍ خاصّة مشحونة بعدد من النظريات الإنسانوية ومسكونة بهواجس ثنائية الذات ـ والموضوع (subject- object). وأما في بيئة الفلسفة الإسلامية فقد عولج هذا المفهوم في ظلّ النظرة الماهوية وتحت تأثير نظريات وحدة الوجود. وبالتالي لا بدّ من لحاظ هاتين البيئتين الفكريّتين عند إرادة المقارنة بين مفهوم الوجود في الوجودية وهذا المفهوم عينه في إطار نظرية أصالة الوجود. الأرضية الثقافية للمفهوم الواحد: إنّ المؤشّرات والشواخص الثقافية في مجتمع من المجتمعات تؤدّي دورًا هامًّا في إضفاء المعنى على المفاهيم التي تتداول فيها. وعلى حدّ تعبير فيتغنشتاين: إنّ صور الحياة هي التي تعطي لمفهوم من مفاهيمها معناه المحدّد. واختلاف «الألعاب اللغوية» يفضي إلى اختلاف في قواعد إضفاء المعنى. وبالتالي فإنّ اختلاف الظروف الثقافية تؤدّي إلى اختلاف معنى المفهوم الواحد ودلالاته. وكثيرًا ما تُستخدم عبارة فلسفيّة في بيئتين ثقافيّتين تضفي كلّ واحدةٍ منهما على هذه العبارة معنًى مختلفًا، يجعلنا نكتشف أنّ هذا التشابه الظاهريَ ما هو إلا من باب الاشتراك اللفظي (أي الاشتراك في الاسم والاختلاف في المعنى). وعلى ضوء هذه الإشارة لا يصحّ لأحدٍ أن يدّعي أنّه يفهم معنى الإنسان في الثقافة الغربية، من دون أن يلحظ مفهوم التجسّد والخطيئة الأولى. ولا ننكر أنّ عددًا كبيرًا من المفكّرين الغربيّين لم تکن لديهم ميولٌ دينيّةٌ ولكنّ المعنى الذي يقصدونه من مفهوم «إنسان» مستخدمٌ في البيئة الثقافية المسيحيّة التي يمثل التجسّد والخطيئة الأولى مفاهيمَ مركزيّة فيها، وهذا يختلف عن المعنى الذي يدلّ عليه مفهوم «إنسان» في البيئة الإسلامية التي تنطلق من مبدإ أنّ الإنسان خليفةُ الله. فما لم تُعرف البيئة والأرضية الثقافية والاجتماعية لا يمكن التعرّف إلى المفاهيم المستخدمة في ذلك المجتمع. غايات البحث الفلسفيّ في المفهوم الواحد: قد يُحلّل المفهوم الفلسفيّ الواحد في الفلسفات المختلفة من أجل غايات تختلف من فلسفة إلى أخرى، وتترك هذه الغاية أثرها على المعنى الذي يكتسبه هذا المفهوم في مسيرة استعماله ومعالجته. فالمفهوم الذي يُحلّل في فلسفةٍ في سياق التعرّف إلى أفضل الوسائل لتسلّط الإنسان على الطبيعة واستخدام التقانة، يصعب أن يتّحد في مداليله مع المفهوم الذي يُعالج في فلسفة أخرى بهدف شرح العلاقة بين الإنسان والعالم لتأمين اتّحاد شاملٍ معه. فغاية التحليل الفلسفيّ هي التي تسهم في تبيين المفهوم وإضفاء المعنى عليه. وبعبارة عامّة إنّ هواجس الفيلسوف تؤثّر في تشكّل المفاهيم التي يتعاطاها، وهي التي تصوغ رؤيته واتّجاهه الفلسفيّ. واختلاف المجتمعات في هذه الهواجس ينتقل إلى اختلاف المفاهيم في معانيها ودلالاتها حتّى لو اتحدت قبل الاشتغال الفلسفي عليها. ما تقدّم أعلاه هو بعض الملاحظات التي ينبغي أن لا يغفل عنها من يريد المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. وهذه الملاحظات وغيرها ممّا له صلة بمجال التفسير والهرمينوطيقا تزيد صعوبة المقارنة الفلسفية؛ بل تجعل بعض الفلاسفة والباحثين في الفلسفة يشكّكون في إمكان المقارنة بين المدارس الفلسفيّة. ولسنا نبتغي في هذه الدراسة استعراض الآراء المطروحة في هذا المجال ولا النظر في حججها وأدلّتها لاختيار الصحيح منها وطرح الفاسد، وإنّما نكتفي بالانطلاق من مصادرة مفادها أنّ هذه الملاحظات، على الرغم من وجاهتها وتأثيرها، إلا أنّ ملاحظتها والالتفات إليها يساعدان في عقد مقارنة ناجحة بين مدرستين فلسفيّتين. وإنّنا ندّعي أنّ الملاحظات المذكورة آنفًا إذا كانت توجب استحالة التفاهم، فإنّها من دون شكٍّ سوف تقف سدًّا دون فهم الأفكار من خارج البيئة الثقافية التي طُرِحت فيها، والحال أنّ المصادرة الأولية هي إمكان الحوار بين البشر وقدرتهم على نقل الأفكار من بيئة إلى بيئة ثانية. وننطلق في دراستنا هذه من إمكان المقارنة بين الفلسفات على الرغم من الملاحظات الجادّة المذكورة، بل نرى أنّ تبادل الأفكار أمرٌ ضروريٌّ للإنسانية. هذا وإنّ الانطلاق في المقارنة من النظرة السطحية التي تحكم باتّحاد المفاهيم لن يوصل إلّا إلى نتائج سطحية وساذجة. ومن هنا، لا بدّ من الالتفات، خلال المقارنة إلى الظروف الثقافية والأرضية الفكريّة التي وُلِد فيها المفهوم، كما إلى الغايات التي من أجلها جُعِل تحت مجهر البحث والنظر الفلسفيّ.
حميد رضا آية الله - ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ نظرية الوجود بين الوجودية وأصالة الوجود: دراسة مقارنة بين هايدغر والملا صدرا ❝ الناشرين : ❞ مجلة الإستغراب ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

وصف الكتاب : مع الفلسفة الوجوديّة تحوّل الاهتمام من نظريّة المعرفة والبحث الفلسفي المعرفيّ، إلى الاهتمام بحاقّ الوجود؛ أي الاهتمام بالوجود ذاته. وقد أدّى هذا التحوّل إلى دخول الفلسفة الغربيّة في مسار مختلفٍ وترك بصماتٍ عظيمة الأثر على هذه الفلسفة. كما إن الفلسفة الإسلامية طرأ عليها أمرٌ مشابهٌ مع التحوّل الذي أحدثته مدرسة الحكمة المتعالية؛ حيث مركز الاهتمام إلى الوجود بعد ما كان الهمّ الفلسفيّ همًّا ماهويًّا يحصر اهتمامه بالتفسير الماهويّ للوجود.

وتكمن أهميّة هذا التحوّل في الأثر الذي تركه على مسائل الفلسفة كلّها. ويبدو في النظرة الأوليّة أنّ المسارين متشابهين، بل ربّما يحسب الناظر أنّ ثمة مسارًا واحدًا اعتُمد في الفلسفتين، ينبغي أن يؤدّي إلى نتائج مشتركة بينهما. وفي هذه المقالة بحثُ مسهبٌ عن مفهوم الوجود عند المدرستين بغاية المقارنة بينهما، لاكتشاف نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق بينهما يجري ذلك على صعيد المفهوم، وكذلك على مستوى خلفيات التحوّل، فضلاً عن النتائج التي أفضى إليها هذا التحوّل.

ثمّة وجوه تشابه كثيرة واتحاد مشهود في عددٍ من المسائل والعناوين التي يتعرّض لها الفلاسفة في دراساتهم وأبحاثهم الفلسفيّة، ما يدعونا إلى الإحساس الأوليّ بأنّ هذه الأبحاث ما هي سوى آراء وأجوبة مختلفة عن سؤالٍ واحدٍ؛ ولكن على الرغم من هذا الفهم الأوّلي فإنّ الواقع يختلف عمّا يبدو عليه لأوّل وهلةٍ، ويكشف التأمّل والتدقيق عن معنًى آخر لهذا التشابه. وهذا الاختلاف بين سطح المسائل وقعرها يثير صعوباتٍ جمّةً لمن يرغب في المقارنة بين مدرستين فلسفيّتين في ما يرتبط بمفهوم واحدٍ. وفي ما يأتي نكتفي ببعض الملاحظات الموجزة ونطوي كشحًا عن التفصيل والخوض في غمار بيان تعقيدات مثل هذه المقارنة.

الخلفية التاريخيّة لتشكّل المفهوم الواحد: إنّ كثيرًا من المفاهيم المطروحة على بساط البحث في نظامٍ فلسفيٍّ، تحمل على عاتقها أعباء وتبعات ظروف تاريخيّة وثقافية أدّت إلى ظهورها، الأمر الذي لا يمكن تجاهله بسهولة. وتقبع إلى جانب المفهوم مجموعة من العناصر والمفاهيم المؤثّرة في بيانه وتوضيحه. ولهذه الخصوصية أثرٌ مهمٌّ في المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. ومفهوم الوجود واحدٌ من هذه المفاهيم التي طُرِحت في الغرب في سياق تاريخيٍّ يجعل النظر إليه وحده من دون الظروف التي أحاطت بولادته وتشكّله أمرًا غيرَ علميٍّ، وذلك أنّه وُلِد في بيئة معرفيّةٍ خاصّة مشحونة بعدد من النظريات الإنسانوية ومسكونة بهواجس ثنائية الذات ـ والموضوع (subject- object). وأما في بيئة الفلسفة الإسلامية فقد عولج هذا المفهوم في ظلّ النظرة الماهوية وتحت تأثير نظريات وحدة الوجود. وبالتالي لا بدّ من لحاظ هاتين البيئتين الفكريّتين عند إرادة المقارنة بين مفهوم الوجود في الوجودية وهذا المفهوم عينه في إطار نظرية أصالة الوجود.

الأرضية الثقافية للمفهوم الواحد: إنّ المؤشّرات والشواخص الثقافية في مجتمع من المجتمعات تؤدّي دورًا هامًّا في إضفاء المعنى على المفاهيم التي تتداول فيها. وعلى حدّ تعبير فيتغنشتاين: إنّ صور الحياة هي التي تعطي لمفهوم من مفاهيمها معناه المحدّد. واختلاف «الألعاب اللغوية» يفضي إلى اختلاف في قواعد إضفاء المعنى. وبالتالي فإنّ اختلاف الظروف الثقافية تؤدّي إلى اختلاف معنى المفهوم الواحد ودلالاته. وكثيرًا ما تُستخدم عبارة فلسفيّة في بيئتين ثقافيّتين تضفي كلّ واحدةٍ منهما على هذه العبارة معنًى مختلفًا، يجعلنا نكتشف أنّ هذا التشابه الظاهريَ ما هو إلا من باب الاشتراك اللفظي (أي الاشتراك في الاسم والاختلاف في المعنى). وعلى ضوء هذه الإشارة لا يصحّ لأحدٍ أن يدّعي أنّه يفهم معنى الإنسان في الثقافة الغربية، من دون أن يلحظ مفهوم التجسّد والخطيئة الأولى. ولا ننكر أنّ عددًا كبيرًا من المفكّرين الغربيّين لم تکن لديهم ميولٌ دينيّةٌ ولكنّ المعنى الذي يقصدونه من مفهوم «إنسان» مستخدمٌ في البيئة الثقافية المسيحيّة التي يمثل التجسّد والخطيئة الأولى مفاهيمَ مركزيّة فيها، وهذا يختلف عن المعنى الذي يدلّ عليه مفهوم «إنسان» في البيئة الإسلامية التي تنطلق من مبدإ أنّ الإنسان خليفةُ الله. فما لم تُعرف البيئة والأرضية الثقافية والاجتماعية لا يمكن التعرّف إلى المفاهيم المستخدمة في ذلك المجتمع.

غايات البحث الفلسفيّ في المفهوم الواحد: قد يُحلّل المفهوم الفلسفيّ الواحد في الفلسفات المختلفة من أجل غايات تختلف من فلسفة إلى أخرى، وتترك هذه الغاية أثرها على المعنى الذي يكتسبه هذا المفهوم في مسيرة استعماله ومعالجته. فالمفهوم الذي يُحلّل في فلسفةٍ في سياق التعرّف إلى أفضل الوسائل لتسلّط الإنسان على الطبيعة واستخدام التقانة، يصعب أن يتّحد في مداليله مع المفهوم الذي يُعالج في فلسفة أخرى بهدف شرح العلاقة بين الإنسان والعالم لتأمين اتّحاد شاملٍ معه. فغاية التحليل الفلسفيّ هي التي تسهم في تبيين المفهوم وإضفاء المعنى عليه. وبعبارة عامّة إنّ هواجس الفيلسوف تؤثّر في تشكّل المفاهيم التي يتعاطاها، وهي التي تصوغ رؤيته واتّجاهه الفلسفيّ. واختلاف المجتمعات في هذه الهواجس ينتقل إلى اختلاف المفاهيم في معانيها ودلالاتها حتّى لو اتحدت قبل الاشتغال الفلسفي عليها.

ما تقدّم أعلاه هو بعض الملاحظات التي ينبغي أن لا يغفل عنها من يريد المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. وهذه الملاحظات وغيرها ممّا له صلة بمجال التفسير والهرمينوطيقا تزيد صعوبة المقارنة الفلسفية؛ بل تجعل بعض الفلاسفة والباحثين في الفلسفة يشكّكون في إمكان المقارنة بين المدارس الفلسفيّة. ولسنا نبتغي في هذه الدراسة استعراض الآراء المطروحة في هذا المجال ولا النظر في حججها وأدلّتها لاختيار الصحيح منها وطرح الفاسد، وإنّما نكتفي بالانطلاق من مصادرة مفادها أنّ هذه الملاحظات، على الرغم من وجاهتها وتأثيرها، إلا أنّ ملاحظتها والالتفات إليها يساعدان في عقد مقارنة ناجحة بين مدرستين فلسفيّتين. وإنّنا ندّعي أنّ الملاحظات المذكورة آنفًا إذا كانت توجب استحالة التفاهم، فإنّها من دون شكٍّ سوف تقف سدًّا دون فهم الأفكار من خارج البيئة الثقافية التي طُرِحت فيها، والحال أنّ المصادرة الأولية هي إمكان الحوار بين البشر وقدرتهم على نقل الأفكار من بيئة إلى بيئة ثانية.

وننطلق في دراستنا هذه من إمكان المقارنة بين الفلسفات على الرغم من الملاحظات الجادّة المذكورة، بل نرى أنّ تبادل الأفكار أمرٌ ضروريٌّ للإنسانية. هذا وإنّ الانطلاق في المقارنة من النظرة السطحية التي تحكم باتّحاد المفاهيم لن يوصل إلّا إلى نتائج سطحية وساذجة. ومن هنا، لا بدّ من الالتفات، خلال المقارنة إلى الظروف الثقافية والأرضية الفكريّة التي وُلِد فيها المفهوم، كما إلى الغايات التي من أجلها جُعِل تحت مجهر البحث والنظر الفلسفيّ.

للكاتب/المؤلف : حميد رضا آية الله .
دار النشر : مجلة الإستغراب .
سنة النشر : 2016م / 1437هـ .
عدد مرات التحميل : 599 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الجمعة , 3 يونيو 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

مع الفلسفة الوجوديّة تحوّل الاهتمام من نظريّة المعرفة والبحث الفلسفي المعرفيّ، إلى الاهتمام بحاقّ الوجود؛ أي الاهتمام بالوجود ذاته. وقد أدّى هذا التحوّل إلى دخول الفلسفة الغربيّة في مسار مختلفٍ وترك بصماتٍ عظيمة الأثر على هذه الفلسفة. كما إن الفلسفة الإسلامية طرأ عليها أمرٌ مشابهٌ مع التحوّل الذي أحدثته مدرسة الحكمة المتعالية؛ حيث   مركز الاهتمام إلى الوجود بعد ما كان الهمّ الفلسفيّ همًّا ماهويًّا يحصر اهتمامه بالتفسير الماهويّ للوجود. 

وتكمن أهميّة هذا التحوّل في الأثر الذي تركه على مسائل الفلسفة كلّها. ويبدو في النظرة الأوليّة أنّ المسارين متشابهين، بل ربّما يحسب الناظر أنّ ثمة مسارًا واحدًا اعتُمد في الفلسفتين، ينبغي أن يؤدّي إلى نتائج مشتركة بينهما. وفي هذه المقالة بحثُ مسهبٌ عن مفهوم الوجود عند المدرستين بغاية المقارنة بينهما، لاكتشاف نقاط الالتقاء ونقاط الافتراق بينهما يجري ذلك على صعيد المفهوم، وكذلك على مستوى خلفيات التحوّل، فضلاً عن النتائج التي أفضى إليها هذا التحوّل.  

ثمّة وجوه تشابه كثيرة واتحاد مشهود في عددٍ من المسائل والعناوين التي يتعرّض لها الفلاسفة في دراساتهم وأبحاثهم الفلسفيّة، ما يدعونا إلى الإحساس الأوليّ بأنّ هذه الأبحاث ما هي سوى آراء وأجوبة مختلفة عن سؤالٍ واحدٍ؛ ولكن على الرغم من هذا الفهم الأوّلي فإنّ الواقع يختلف عمّا يبدو عليه لأوّل وهلةٍ، ويكشف التأمّل والتدقيق عن معنًى آخر لهذا التشابه. وهذا الاختلاف بين سطح المسائل وقعرها يثير صعوباتٍ جمّةً لمن يرغب في المقارنة بين مدرستين فلسفيّتين في ما يرتبط بمفهوم واحدٍ. وفي ما يأتي نكتفي ببعض الملاحظات الموجزة ونطوي كشحًا عن التفصيل والخوض في غمار بيان تعقيدات مثل هذه المقارنة.

الخلفية التاريخيّة لتشكّل المفهوم الواحد: إنّ كثيرًا من المفاهيم المطروحة على بساط البحث في نظامٍ فلسفيٍّ، تحمل على عاتقها أعباء وتبعات ظروف تاريخيّة وثقافية أدّت إلى ظهورها، الأمر الذي لا يمكن تجاهله بسهولة. وتقبع إلى جانب المفهوم مجموعة من العناصر والمفاهيم المؤثّرة في بيانه وتوضيحه. ولهذه الخصوصية أثرٌ مهمٌّ في المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. ومفهوم الوجود واحدٌ من هذه المفاهيم التي طُرِحت في الغرب في سياق تاريخيٍّ يجعل النظر إليه وحده من دون الظروف التي أحاطت بولادته وتشكّله أمرًا غيرَ علميٍّ، وذلك أنّه وُلِد في بيئة معرفيّةٍ خاصّة مشحونة بعدد من النظريات الإنسانوية ومسكونة بهواجس ثنائية الذات ـ والموضوع (subject- object). وأما في بيئة الفلسفة الإسلامية فقد عولج هذا المفهوم في ظلّ النظرة الماهوية وتحت تأثير نظريات وحدة الوجود. وبالتالي لا بدّ من لحاظ هاتين البيئتين الفكريّتين عند إرادة المقارنة بين مفهوم الوجود في الوجودية وهذا المفهوم عينه في إطار نظرية أصالة الوجود.

الأرضية الثقافية للمفهوم الواحد: إنّ المؤشّرات والشواخص الثقافية في مجتمع من المجتمعات تؤدّي دورًا هامًّا في إضفاء المعنى على المفاهيم التي تتداول فيها. وعلى حدّ تعبير فيتغنشتاين: إنّ صور الحياة هي التي تعطي لمفهوم من مفاهيمها معناه المحدّد. واختلاف «الألعاب اللغوية» يفضي إلى اختلاف في قواعد إضفاء المعنى. وبالتالي فإنّ اختلاف الظروف الثقافية تؤدّي إلى اختلاف معنى المفهوم الواحد ودلالاته. وكثيرًا ما  تُستخدم عبارة فلسفيّة في بيئتين ثقافيّتين تضفي كلّ واحدةٍ منهما على هذه العبارة معنًى مختلفًا، يجعلنا نكتشف أنّ هذا التشابه الظاهريَ ما هو إلا من باب الاشتراك اللفظي (أي الاشتراك في الاسم والاختلاف في المعنى). وعلى ضوء هذه الإشارة لا يصحّ لأحدٍ أن يدّعي أنّه يفهم معنى الإنسان في الثقافة الغربية، من دون أن يلحظ مفهوم التجسّد والخطيئة الأولى. ولا ننكر أنّ عددًا كبيرًا من المفكّرين الغربيّين لم تکن  لديهم ميولٌ دينيّةٌ ولكنّ المعنى الذي يقصدونه من مفهوم «إنسان» مستخدمٌ في البيئة الثقافية المسيحيّة التي يمثل التجسّد والخطيئة الأولى مفاهيمَ مركزيّة فيها، وهذا يختلف عن المعنى الذي يدلّ عليه مفهوم «إنسان» في البيئة الإسلامية التي تنطلق من مبدإ أنّ الإنسان خليفةُ الله. فما لم تُعرف البيئة والأرضية الثقافية والاجتماعية لا يمكن التعرّف إلى المفاهيم المستخدمة في ذلك المجتمع.

غايات البحث الفلسفيّ في المفهوم الواحد: قد يُحلّل المفهوم الفلسفيّ الواحد في الفلسفات المختلفة من أجل غايات تختلف من فلسفة إلى أخرى، وتترك هذه الغاية أثرها على المعنى الذي يكتسبه هذا المفهوم في مسيرة استعماله ومعالجته. فالمفهوم الذي يُحلّل في فلسفةٍ في سياق التعرّف إلى أفضل الوسائل لتسلّط الإنسان على الطبيعة واستخدام التقانة، يصعب أن يتّحد في مداليله مع المفهوم الذي يُعالج في فلسفة أخرى بهدف شرح العلاقة بين الإنسان والعالم لتأمين اتّحاد شاملٍ معه. فغاية التحليل الفلسفيّ هي التي تسهم في تبيين المفهوم وإضفاء المعنى عليه. وبعبارة عامّة إنّ هواجس الفيلسوف تؤثّر في تشكّل المفاهيم التي يتعاطاها، وهي التي تصوغ رؤيته واتّجاهه الفلسفيّ. واختلاف المجتمعات في هذه الهواجس ينتقل إلى اختلاف المفاهيم في معانيها ودلالاتها حتّى لو اتحدت قبل الاشتغال الفلسفي عليها.

ما تقدّم أعلاه هو بعض الملاحظات التي ينبغي أن لا يغفل عنها من يريد المقارنة بين المفاهيم الفلسفية التي تنتمي إلى مدرستين مختلفتين. وهذه الملاحظات وغيرها ممّا له صلة بمجال التفسير والهرمينوطيقا تزيد صعوبة المقارنة الفلسفية؛ بل تجعل بعض الفلاسفة والباحثين في الفلسفة يشكّكون في إمكان المقارنة بين المدارس الفلسفيّة. ولسنا نبتغي في هذه الدراسة استعراض الآراء المطروحة في هذا المجال ولا النظر في حججها وأدلّتها لاختيار الصحيح منها وطرح الفاسد، وإنّما نكتفي بالانطلاق من مصادرة مفادها أنّ هذه الملاحظات، على الرغم من وجاهتها وتأثيرها، إلا أنّ ملاحظتها والالتفات إليها يساعدان في عقد مقارنة ناجحة بين مدرستين فلسفيّتين. وإنّنا ندّعي أنّ الملاحظات المذكورة آنفًا إذا كانت توجب استحالة التفاهم، فإنّها من دون شكٍّ سوف تقف سدًّا دون فهم الأفكار من خارج البيئة الثقافية التي طُرِحت فيها، والحال أنّ المصادرة الأولية هي إمكان الحوار بين البشر وقدرتهم على نقل الأفكار من بيئة إلى بيئة ثانية.

وننطلق في دراستنا هذه من إمكان المقارنة بين الفلسفات على الرغم من الملاحظات الجادّة المذكورة، بل نرى أنّ تبادل الأفكار أمرٌ ضروريٌّ للإنسانية. هذا وإنّ الانطلاق في المقارنة من النظرة السطحية التي تحكم باتّحاد المفاهيم لن يوصل إلّا إلى نتائج سطحية وساذجة. ومن هنا، لا بدّ من الالتفات، خلال المقارنة إلى الظروف الثقافية والأرضية الفكريّة التي وُلِد فيها المفهوم، كما إلى الغايات التي من أجلها جُعِل تحت مجهر البحث والنظر الفلسفيّ.



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل نظرية الوجود بين الوجودية وأصالة الوجود: دراسة مقارنة بين هايدغر والملا صدرا
حميد رضا آية الله
حميد رضا آية الله



كتب اخرى في الفكر والفلسفة

نيتشه والدين PDF

قراءة و تحميل كتاب نيتشه والدين PDF مجانا

إبداعات صدر الدين الشيرازي الفلسفية: النفس نموذجا PDF

قراءة و تحميل كتاب إبداعات صدر الدين الشيرازي الفلسفية: النفس نموذجا PDF مجانا

كيف نكتب التاريخ PDF

قراءة و تحميل كتاب كيف نكتب التاريخ PDF مجانا

النزعة الأرسطية في فلسفتي سليمان بن جابريول وموسى بن ميمون PDF

قراءة و تحميل كتاب النزعة الأرسطية في فلسفتي سليمان بن جابريول وموسى بن ميمون PDF مجانا

بين ملا صدرا وهايدغر: بحث مقارن في جدلية النظر والعمل PDF

قراءة و تحميل كتاب بين ملا صدرا وهايدغر: بحث مقارن في جدلية النظر والعمل PDF مجانا

الفلسفة المقارنة: التصوف والظاهريات PDF

قراءة و تحميل كتاب الفلسفة المقارنة: التصوف والظاهريات PDF مجانا

نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدرا الشيرازي PDF

قراءة و تحميل كتاب نظرات في فلسفة ابن سينا وملا صدرا الشيرازي PDF مجانا

بدايات علم الكلام في الإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب بدايات علم الكلام في الإسلام PDF مجانا

المزيد من الفكر والفلسفة في مكتبة الفكر والفلسفة , المزيد من النجاح وتطوير الذات في مكتبة النجاح وتطوير الذات , المزيد من مقارنة الأديان في مكتبة مقارنة الأديان , المزيد من السياسة في مكتبة السياسة , المزيد من علم النفس في مكتبة علم النفس , المزيد من الهندسة الشاملة في مكتبة الهندسة الشاملة , المزيد من محمد صلى الله عليه وسلم في مكتبة محمد صلى الله عليه وسلم , المزيد من أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية في مكتبة أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية , المزيد من غير مصنفة في مكتبة غير مصنفة
عرض كل المكتبة التجريبية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..