كتاب  الدين والظمأ الأنطولوجيالمكتبة التجريبية

كتاب الدين والظمأ الأنطولوجي

منذ صدوره قبل عامين نُشِرَت أكثرُ من خمسين مقالةً تُعرِّف بهذا الكتاب، وتتناول أفكارَه بالتحليل والنقد. وفوجئ مؤلفُه باحتفاءِ القرّاء الشباب به، واهتمامِهم بما أثاره من أسئلة، وما خلص إليه من رؤىً حيال الدين، وبواعث حضور الدين المزمن أمس واليوم في الحياة البشرية، وكيف أنه كان ومازال أحدَ العوامل الفاعلة في تاريخ المجتمعات، بكلّ ما يحفل به التاريخُ من تقدّم وتخلّف، ويقظة وسبات، ونهوض وكبوة، وحرب وسلام، وانتصار وهزيمة. تباينت آراءُ القرّاء في مضامين هذا الكتاب، فرأى بعضُ القرّاء أنه دعوةٌ لـ«تصوف مقنع»، ووصفه آخرون بأنه دعوةٌ مغريةٌ للإيمان، ودفاعٌ لـ«محامٍ بارع» عن الدين، ورأى فريقٌ ثالثٌ أنه يبتعد كثيراً عن مفهوم الدين الذي يتحدّث به معظمُ الكتّاب الإسلاميين. وتسلّم الكاتبُ رسائلَ كثيرةً تبدي انزعاجَها وألمَها من نقده لـ«أدلجة الدين في فكر علي شريعتي »، وأقلق غيرَ واحد من القرّاء أن النقدَ الذي يطال شريعتي ينطبق على مفكرين إسلاميين كبار من معاصريه الذين تحوّلت كتاباتُهم إلى ملهمةٍ لعدّة أجيال، إذ تنبهوا إلى أن نقدَ الكتاب لفكر شريعتي إنما جاء بوصفه مثالاً لنمط تفكيرٍ أيديولوجي تغلغل في أدبيات الجماعات الدينية كلِّها في النصف الثاني من القرن العشرين. لعل تنوعَ مواقف قرّاء الكتاب، واختلافَ آرائهم في الكتاب يعود إلى كثافةِ حضور التجربة الذاتية للكاتب في موضوعاته، وتداخلِ تنويعات العقل والقلب والروح فيها، فهي تجربةٌ ألقتْ بثقلها على موضوعات الكتاب. لم ينفرد فيها صوتُ العقل فقط، بل إن القارئَ يستمع فيها للعقل يتحدّث للقلب والروح، كما يستمع فيها للقلب والروح يتحدثان للعقل. يعترف الكاتبُ أنه أفاد من آثار فلاسفةٍ وروحانيين كبار ملهمين للمعنى، لكن القارئَ الخبيرَ يتحسّس صوتَ مؤلفه الذي حرص على ألا يكرّر غيرَه أو يستنسخه. فعندما كان المؤلفُ يحيل إلى التراث الروحاني في الإسلام لم يكن داعيةً لـ«تصوف مقنع»، لأنه لا يعوزه الحسُّ التاريخي، لذلك تعاطى مع ذلك التراث بوصفه فهماً للدين، وتأويلاً للقرآن الكريم، ينتميان للأفق التاريخي الذي وُلدا فيه. ومع ثنائِه على ما يتميز به التصوّفُ الفلسفي من الخروج على الأنساق المغلقة لعلم الكلام التي انطفأت فيها أشواقُ الروح وذبلت فيها جذوةُ الأخلاق، وإعجابِه بطاقة المعنى الخلاقة في التراث الروحاني الذي منح روحَ وقلبَ المسلم فضاءً فسيحاً يمكّنه من بناء صلة ديناميكة يقظة بالله، وإدراكِه لقدرة النظام المعرفي للتصوف الفلسفي على تحرير العقل من الأسوار المغلقة للرؤية التوحيدية للمتكلمين، وتخطي الفهم المتصلّب للدين والتفسير الحرفي لنصوصه. لكن مع كلِّ تلك الميزات الباهرة في التراث الروحاني فإنه كغيره من تراث الإسلام يتسع لاتجاهات متضادّة ومقولات متنازعة، اصطبغت بألوان عديدة، من خلال تشكّلها في أزمنة وأمكنة مختلفة، واتخذت صياغاتٍ متباينةً على وفق السياقاتِ المتنوعة التي تموضعت في مناخاتها، وأنماطِ التجارب الروحية لأصحابها، لذلك ترى في آثار المتصوّفة والعرفاء ما هو أشدُّ فتكاً من الشعوذة والوثنية، مما يُعطّل العقلَ ويُهشّم القلبَ ويُشوّه الروحَ، وترى فيها، بعد تمحيص واختبار، كما يرى فيها كلُّ قارئ محترف، درراً ولآلئَ نادرة، توقظ العقلَ من سباته، وتنقذ الروحَ من متاهاتها، وتغيث القلبَ حالة يبابه. أما القرّاءُ الذين رأوا المؤلفَ داعيةً للإيمان و«محاميا بارعا» في الدفاع عن الدين، فقد تنبهوا بذكاء لرسالة هذا الكتاب وكتاباتي الأخرى، إذ كنتُ ومازلتُ مؤمناً بالدين، ومدركاً لحضوره الأبدي، ودارساً لتنوّع تمثلاته في حياة الفرد والجماعة. بل إني قلتُ أكثر من مرة: «أنا كائن ميتافيزيقي، لا تتحقّق ذاتي إلّا حيث يتحقّق إيماني». أما أولئك المنزعجون من هذا الكتابِ وغيرِه من كتاباتي فإني أتفّهم مشاعرَهم، وأظن أن الكثيرَ منهم يشعر بالخذلان عندما يجدني في موقع فكري غيرِ الموقع الذي كنتُ فيه في شبابي. حين كان صوتي مجردَ صدىً لأصوات كتابات مليئة بالشعاراتِ التعبوية، والأحكامِ الوثوقية الجاهزة، التي تفتقر للتحليل والغربلة والتمحيص والنقد، ولا تعرف شيئاً عن المناهج الحديثة للبحث العلمي، وتفشل في توظيف أدواته في دراسة الظواهر المجتمعية وفهمها. بعد سنوات طويلة أمضيتها في دراسة وتدريس معارف الدين بدأت بالتدريج اكتشف قصورَ فهمي للدين، وهشاشةَ تفسيري لنصوصه. وبعد أن اختنق تفكيري في مدارات التراث المسدودة، حاولتُ أن أعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع الحديثةَ في فهمِ الدين بوصفه ظاهرةً عميقةً في حياة الإنسان، وتحليلِ كيفية نشأة وتطوّر معارفه، وتراكمِ التراث الذي تكوّن في فضائه، وتنوّعِه عبر العصور، فرأيتُ طبقاتٍ للدين والتراث لم أَ رَها من قبل، وأضاءتْ لي أعماقاً لم أكن أدركها. رأيتُ كيف تتشكّل معارفُ الدين عبر التاريخ، وكيف ينتج كلُّ عصر فهمَه للنصّ، وتعلّمتُ كيف يؤثّر النصُّ الديني في الواقع، وكيف يتوالد تفسيرُ النصّ من الواقع، ورأيتُ نسيجَ العلاقات المجتمعية المعقدة وأثرَها المباشر في إنتاج أشكال المعارف الدينية المختلفة. يبقى مؤلفُ هذا الكتاب مديناً للقرّاء الذين منحوه ثقتَهم، ولم ينقطع تواصلُهم المباشر معه بوسائل الاتصال المختلفة حتى اليوم، كلٌّ منهم يبدي وجهةَ نظره ورأيَه في القضايا التي أثارها الكتابُ إثباتاً ونفياً. آراءُ القرّاء وأسئلتُهم ومناقشاتُهم حثتني على التفكير مجدداً في قضايا لازمتْ تفكيري منذ بداية مطالعاتي ودراستي لمعارف الدين، وكنتُ فيما مضى أغلق التفكيرَ فيها بإجاباتٍ لم أجد الكثيرَ منها منطقياً اليوم، لذلك حاولتُ إثارتَها بشكل أدق، والسعيَ لتقديم إجابات لها، تتخذ القرآنَ مرجعيةً، والمناهجَ الحديثةَ في التأويل أدواتِ تبصّر في ما ترمي إليه مدلولاتُه. ويتضمن شيئاً من هذه الإجابات كتابي الجديد «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، الذي يتزامن صدورُ طبعته الأولى مع الطبعةِ الثالثة لهذا الكتاب، والطبعةِ الثالثة من كتابي «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» الصادر عام 2010، والذي كان يمثّل الحلقةَ الأولى في مسعىً لإرساءِ لَبَناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترسم منطقَ فهمِ آيات الكتاب، من أجل بناء رؤية «إنسانية ايمانية» للدين، عساها تطلُّ بنا على أفق مضيء نرى فيه الدينَ من منظور مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّراً لا مستعبِداً، والتديّنُ حالةً روحانيةً أخلاقية جمالية تتجلى فيها أجملُ صورة لله والإنسان والعالَم. وآمل أن تظلّ كتاباتي القادمةُ وفيةً لهذا النهج الذي خلصت إليه بعد رحلة تفكير وتأمل تواصلت لأكثر من أربعين عاماً من حياتي، واكبتُ فيها دراسةَ وتدريسَ معارف الدين، وعشتُ حياةً روحية وأخلاقية تكرّستْ اثر مكابداتِ صور مضادّة لها، تبدّتْ في سلوك بعض المتدينين، ممن تتخذُ شخصياتُهم أقنعةً دينيةً زائفة، تلتبسُ فيها القيمُ الرديئةُ بالأمراض الأخلاقية والنفسية، وتختبئ أحياناً خلف طقوس وشعائر صاخبة. عبدالجبار الرفاعي
عبد الجبار الرفاعى - بد الجبار الرفاعي، مفكر عراقي وأستاذ فلسفة إسلامية، مواليد ذي قار – العراق، سنة 1954.حاصل على عدة شهادات أكاديمية منها دكتوراه فلسفة إسلامية، بتقدير امتياز، 2005، وماجستير علم کلام، 1990،وبكالوريوس دراسات إسلامية، 1988، ودبلوم فني زراعي، 1975. وله رؤية فلسفية حول الإصلاح ومناهج التفكير الديني.❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الدين واسئلة الحداثة ❝ ❞ مقدمة في علم الكلام الجديد ❝ ❞ مراجعة لكتاب: العقل والمعتقد الديني: مدخل إلى فلسفة الدين ❝ ❞ الشیخ أمین الخولي أول هِرْمِنیوطیقی في عالم الإسلام ❝ ❞ الدين والظمأ الأنطولوجي ❝ الناشرين : ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ دار نور المكتبات للنشر والتوزيع _ جدة ❝ ❱
من الفكر والفلسفة - مكتبة المكتبة التجريبية.

وصف الكتاب : منذ صدوره قبل عامين نُشِرَت أكثرُ من خمسين مقالةً تُعرِّف بهذا الكتاب، وتتناول أفكارَه بالتحليل والنقد. وفوجئ مؤلفُه باحتفاءِ القرّاء الشباب به، واهتمامِهم بما أثاره من أسئلة، وما خلص إليه من رؤىً حيال الدين، وبواعث حضور الدين المزمن أمس واليوم في الحياة البشرية، وكيف أنه كان ومازال أحدَ العوامل الفاعلة في تاريخ المجتمعات، بكلّ ما يحفل به التاريخُ من تقدّم وتخلّف، ويقظة وسبات، ونهوض وكبوة، وحرب وسلام، وانتصار وهزيمة.

تباينت آراءُ القرّاء في مضامين هذا الكتاب، فرأى بعضُ القرّاء أنه دعوةٌ لـ«تصوف مقنع»، ووصفه آخرون بأنه دعوةٌ مغريةٌ للإيمان، ودفاعٌ لـ«محامٍ بارع» عن الدين، ورأى فريقٌ ثالثٌ أنه يبتعد كثيراً عن مفهوم الدين الذي يتحدّث به معظمُ الكتّاب الإسلاميين. وتسلّم الكاتبُ رسائلَ كثيرةً تبدي انزعاجَها وألمَها من نقده لـ«أدلجة الدين في فكر علي شريعتي »، وأقلق غيرَ واحد من القرّاء أن النقدَ الذي يطال شريعتي ينطبق على مفكرين إسلاميين كبار من معاصريه الذين تحوّلت كتاباتُهم إلى ملهمةٍ لعدّة أجيال، إذ تنبهوا إلى أن نقدَ الكتاب لفكر شريعتي إنما جاء بوصفه مثالاً لنمط تفكيرٍ أيديولوجي تغلغل في أدبيات الجماعات الدينية كلِّها في النصف الثاني من القرن العشرين.

لعل تنوعَ مواقف قرّاء الكتاب، واختلافَ آرائهم في الكتاب يعود إلى كثافةِ حضور التجربة الذاتية للكاتب في موضوعاته، وتداخلِ تنويعات العقل والقلب والروح فيها، فهي تجربةٌ ألقتْ بثقلها على موضوعات الكتاب. لم ينفرد فيها صوتُ العقل فقط، بل إن القارئَ يستمع فيها للعقل يتحدّث للقلب والروح، كما يستمع فيها للقلب والروح يتحدثان للعقل.

يعترف الكاتبُ أنه أفاد من آثار فلاسفةٍ وروحانيين كبار ملهمين للمعنى، لكن القارئَ الخبيرَ يتحسّس صوتَ مؤلفه الذي حرص على ألا يكرّر غيرَه أو يستنسخه. فعندما كان المؤلفُ يحيل إلى التراث الروحاني في الإسلام لم يكن داعيةً لـ«تصوف مقنع»، لأنه لا يعوزه الحسُّ التاريخي، لذلك تعاطى مع ذلك التراث بوصفه فهماً للدين، وتأويلاً للقرآن الكريم، ينتميان للأفق التاريخي الذي وُلدا فيه. ومع ثنائِه على ما يتميز به التصوّفُ الفلسفي من الخروج على الأنساق المغلقة لعلم الكلام التي انطفأت فيها أشواقُ الروح وذبلت فيها جذوةُ الأخلاق، وإعجابِه بطاقة المعنى الخلاقة في التراث الروحاني الذي منح روحَ وقلبَ المسلم فضاءً فسيحاً يمكّنه من بناء صلة ديناميكة يقظة بالله، وإدراكِه لقدرة النظام المعرفي للتصوف الفلسفي على تحرير العقل من الأسوار المغلقة للرؤية التوحيدية للمتكلمين، وتخطي الفهم المتصلّب للدين والتفسير الحرفي لنصوصه.

لكن مع كلِّ تلك الميزات الباهرة في التراث الروحاني فإنه كغيره من تراث الإسلام يتسع لاتجاهات متضادّة ومقولات متنازعة، اصطبغت بألوان عديدة، من خلال تشكّلها في أزمنة وأمكنة مختلفة، واتخذت صياغاتٍ متباينةً على وفق السياقاتِ المتنوعة التي تموضعت في مناخاتها، وأنماطِ التجارب الروحية لأصحابها، لذلك ترى في آثار المتصوّفة والعرفاء ما هو أشدُّ فتكاً من الشعوذة والوثنية، مما يُعطّل العقلَ ويُهشّم القلبَ ويُشوّه الروحَ، وترى فيها، بعد تمحيص واختبار، كما يرى فيها كلُّ قارئ محترف، درراً ولآلئَ نادرة، توقظ العقلَ من سباته، وتنقذ الروحَ من متاهاتها، وتغيث القلبَ حالة يبابه.

أما القرّاءُ الذين رأوا المؤلفَ داعيةً للإيمان و«محاميا بارعا» في الدفاع عن الدين، فقد تنبهوا بذكاء لرسالة هذا الكتاب وكتاباتي الأخرى، إذ كنتُ ومازلتُ مؤمناً بالدين، ومدركاً لحضوره الأبدي، ودارساً لتنوّع تمثلاته في حياة الفرد والجماعة. بل إني قلتُ أكثر من مرة: «أنا كائن ميتافيزيقي، لا تتحقّق ذاتي إلّا حيث يتحقّق إيماني».

أما أولئك المنزعجون من هذا الكتابِ وغيرِه من كتاباتي فإني أتفّهم مشاعرَهم، وأظن أن الكثيرَ منهم يشعر بالخذلان عندما يجدني في موقع فكري غيرِ الموقع الذي كنتُ فيه في شبابي. حين كان صوتي مجردَ صدىً لأصوات كتابات مليئة بالشعاراتِ التعبوية، والأحكامِ الوثوقية الجاهزة، التي تفتقر للتحليل والغربلة والتمحيص والنقد، ولا تعرف شيئاً عن المناهج الحديثة للبحث العلمي، وتفشل في توظيف أدواته في دراسة الظواهر المجتمعية وفهمها.

بعد سنوات طويلة أمضيتها في دراسة وتدريس معارف الدين بدأت بالتدريج اكتشف قصورَ فهمي للدين، وهشاشةَ تفسيري لنصوصه. وبعد أن اختنق تفكيري في مدارات التراث المسدودة، حاولتُ أن أعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع الحديثةَ في فهمِ الدين بوصفه ظاهرةً عميقةً في حياة الإنسان، وتحليلِ كيفية نشأة وتطوّر معارفه، وتراكمِ التراث الذي تكوّن في فضائه، وتنوّعِه عبر العصور، فرأيتُ طبقاتٍ للدين والتراث لم أَ


رَها من قبل، وأضاءتْ لي أعماقاً لم أكن أدركها. رأيتُ كيف تتشكّل معارفُ الدين عبر التاريخ، وكيف ينتج كلُّ عصر فهمَه للنصّ، وتعلّمتُ كيف يؤثّر النصُّ الديني في الواقع، وكيف يتوالد تفسيرُ النصّ من الواقع، ورأيتُ نسيجَ العلاقات المجتمعية المعقدة وأثرَها المباشر في إنتاج أشكال المعارف الدينية المختلفة.
يبقى مؤلفُ هذا الكتاب مديناً للقرّاء الذين منحوه ثقتَهم، ولم ينقطع تواصلُهم المباشر معه بوسائل الاتصال المختلفة حتى اليوم، كلٌّ منهم يبدي وجهةَ نظره ورأيَه في القضايا التي أثارها الكتابُ إثباتاً ونفياً.

آراءُ القرّاء وأسئلتُهم ومناقشاتُهم حثتني على التفكير مجدداً في قضايا لازمتْ تفكيري منذ بداية مطالعاتي ودراستي لمعارف الدين، وكنتُ فيما مضى أغلق التفكيرَ فيها بإجاباتٍ لم أجد الكثيرَ منها منطقياً اليوم، لذلك حاولتُ إثارتَها بشكل أدق، والسعيَ لتقديم إجابات لها، تتخذ القرآنَ مرجعيةً، والمناهجَ الحديثةَ في التأويل أدواتِ تبصّر في ما ترمي إليه مدلولاتُه. ويتضمن شيئاً من هذه الإجابات كتابي الجديد «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، الذي يتزامن صدورُ طبعته الأولى مع الطبعةِ الثالثة لهذا الكتاب، والطبعةِ الثالثة من كتابي «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» الصادر عام 2010، والذي كان يمثّل الحلقةَ الأولى في مسعىً لإرساءِ لَبَناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترسم منطقَ فهمِ آيات الكتاب، من أجل بناء رؤية «إنسانية ايمانية» للدين، عساها تطلُّ بنا على أفق مضيء نرى فيه الدينَ من منظور مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّراً لا مستعبِداً، والتديّنُ حالةً روحانيةً أخلاقية جمالية تتجلى فيها أجملُ صورة لله والإنسان والعالَم.

وآمل أن تظلّ كتاباتي القادمةُ وفيةً لهذا النهج الذي خلصت إليه بعد رحلة تفكير وتأمل تواصلت لأكثر من أربعين عاماً من حياتي، واكبتُ فيها دراسةَ وتدريسَ معارف الدين، وعشتُ حياةً روحية وأخلاقية تكرّستْ اثر مكابداتِ صور مضادّة لها، تبدّتْ في سلوك بعض المتدينين، ممن تتخذُ شخصياتُهم أقنعةً دينيةً زائفة، تلتبسُ فيها القيمُ الرديئةُ بالأمراض الأخلاقية والنفسية، وتختبئ أحياناً خلف طقوس وشعائر صاخبة.

عبدالجبار الرفاعي

للكاتب/المؤلف : عبد الجبار الرفاعى .
دار النشر : دار التنوير للطباعة والنشر .
سنة النشر : 2018م / 1439هـ .
عدد مرات التحميل : 750 مرّة / مرات.
تم اضافته في : الأحد , 17 أبريل 2022م.

ولتسجيل ملاحظاتك ورأيك حول الكتاب يمكنك المشاركه في التعليقات من هنا:

 منذ صدوره قبل عامين نُشِرَت أكثرُ من خمسين مقالةً تُعرِّف بهذا الكتاب، وتتناول أفكارَه بالتحليل والنقد. وفوجئ مؤلفُه باحتفاءِ القرّاء الشباب به، واهتمامِهم بما أثاره من أسئلة، وما خلص إليه من رؤىً حيال الدين، وبواعث حضور الدين المزمن أمس واليوم في الحياة البشرية، وكيف أنه كان ومازال أحدَ العوامل الفاعلة في تاريخ المجتمعات، بكلّ ما يحفل به التاريخُ من تقدّم وتخلّف، ويقظة وسبات، ونهوض وكبوة، وحرب وسلام، وانتصار وهزيمة.

 تباينت آراءُ القرّاء في مضامين هذا الكتاب، فرأى بعضُ القرّاء أنه دعوةٌ لـ«تصوف مقنع»، ووصفه آخرون بأنه دعوةٌ مغريةٌ للإيمان، ودفاعٌ لـ«محامٍ بارع» عن الدين، ورأى فريقٌ ثالثٌ أنه يبتعد كثيراً عن مفهوم الدين الذي يتحدّث به معظمُ الكتّاب الإسلاميين. وتسلّم الكاتبُ رسائلَ كثيرةً تبدي انزعاجَها وألمَها من نقده لـ«أدلجة الدين في فكر علي شريعتي »، وأقلق غيرَ واحد من القرّاء أن النقدَ الذي يطال شريعتي ينطبق على مفكرين إسلاميين كبار من معاصريه الذين تحوّلت كتاباتُهم إلى ملهمةٍ لعدّة أجيال، إذ تنبهوا إلى أن نقدَ الكتاب لفكر شريعتي إنما جاء بوصفه مثالاً لنمط تفكيرٍ أيديولوجي تغلغل في أدبيات الجماعات الدينية كلِّها في النصف الثاني من القرن العشرين. 

 لعل تنوعَ مواقف قرّاء الكتاب، واختلافَ آرائهم في الكتاب يعود إلى كثافةِ حضور التجربة الذاتية للكاتب في موضوعاته، وتداخلِ تنويعات العقل والقلب والروح فيها، فهي تجربةٌ ألقتْ بثقلها على موضوعات الكتاب. لم ينفرد فيها صوتُ العقل فقط، بل إن القارئَ يستمع فيها للعقل يتحدّث للقلب والروح، كما يستمع فيها للقلب والروح يتحدثان للعقل.

 يعترف الكاتبُ أنه أفاد من آثار فلاسفةٍ وروحانيين كبار ملهمين للمعنى، لكن القارئَ الخبيرَ يتحسّس صوتَ مؤلفه الذي حرص على ألا يكرّر غيرَه أو يستنسخه. فعندما كان المؤلفُ يحيل إلى التراث الروحاني في الإسلام لم يكن داعيةً لـ«تصوف مقنع»، لأنه لا يعوزه الحسُّ التاريخي، لذلك تعاطى مع ذلك التراث بوصفه فهماً للدين، وتأويلاً للقرآن الكريم، ينتميان للأفق التاريخي الذي وُلدا فيه. ومع ثنائِه على ما يتميز به التصوّفُ الفلسفي من الخروج على الأنساق المغلقة لعلم الكلام التي انطفأت فيها أشواقُ الروح وذبلت فيها جذوةُ الأخلاق، وإعجابِه بطاقة المعنى الخلاقة في التراث الروحاني الذي منح روحَ وقلبَ المسلم فضاءً فسيحاً يمكّنه من بناء صلة ديناميكة يقظة بالله، وإدراكِه لقدرة النظام المعرفي للتصوف الفلسفي على تحرير العقل من الأسوار المغلقة للرؤية التوحيدية للمتكلمين، وتخطي الفهم المتصلّب للدين والتفسير الحرفي لنصوصه. 

لكن مع كلِّ تلك الميزات الباهرة في التراث الروحاني فإنه كغيره من تراث الإسلام يتسع لاتجاهات متضادّة ومقولات متنازعة، اصطبغت بألوان عديدة، من خلال تشكّلها في أزمنة وأمكنة مختلفة، واتخذت صياغاتٍ متباينةً على وفق السياقاتِ المتنوعة التي تموضعت في مناخاتها، وأنماطِ التجارب الروحية لأصحابها، لذلك ترى في آثار المتصوّفة والعرفاء ما هو أشدُّ فتكاً من الشعوذة والوثنية، مما يُعطّل العقلَ ويُهشّم القلبَ ويُشوّه الروحَ، وترى فيها، بعد تمحيص واختبار، كما يرى فيها كلُّ قارئ محترف، درراً ولآلئَ نادرة، توقظ العقلَ من سباته، وتنقذ الروحَ من متاهاتها، وتغيث القلبَ حالة يبابه. 

 أما القرّاءُ الذين رأوا المؤلفَ داعيةً للإيمان و«محاميا بارعا» في الدفاع عن الدين، فقد تنبهوا بذكاء لرسالة هذا الكتاب وكتاباتي الأخرى، إذ كنتُ ومازلتُ مؤمناً بالدين، ومدركاً لحضوره الأبدي، ودارساً لتنوّع تمثلاته في حياة الفرد والجماعة. بل إني قلتُ أكثر من مرة: «أنا كائن ميتافيزيقي، لا تتحقّق ذاتي إلّا حيث يتحقّق إيماني». 

 أما أولئك المنزعجون من هذا الكتابِ وغيرِه من كتاباتي فإني أتفّهم مشاعرَهم، وأظن أن الكثيرَ منهم يشعر بالخذلان عندما يجدني في موقع فكري غيرِ الموقع الذي كنتُ فيه في شبابي. حين كان صوتي مجردَ صدىً لأصوات كتابات مليئة بالشعاراتِ التعبوية، والأحكامِ الوثوقية الجاهزة، التي تفتقر للتحليل والغربلة والتمحيص والنقد، ولا تعرف شيئاً عن المناهج الحديثة للبحث العلمي، وتفشل في توظيف أدواته في دراسة الظواهر المجتمعية وفهمها. 

 بعد سنوات طويلة أمضيتها في دراسة وتدريس معارف الدين بدأت بالتدريج اكتشف قصورَ فهمي للدين، وهشاشةَ تفسيري لنصوصه. وبعد أن اختنق تفكيري في مدارات التراث المسدودة، حاولتُ أن أعتمد الفلسفةَ وعلومَ الإنسان والمجتمع الحديثةَ في فهمِ الدين بوصفه ظاهرةً عميقةً في حياة الإنسان، وتحليلِ كيفية نشأة وتطوّر معارفه، وتراكمِ التراث الذي تكوّن في فضائه، وتنوّعِه عبر العصور، فرأيتُ طبقاتٍ للدين والتراث لم أَ


رَها من قبل، وأضاءتْ لي أعماقاً لم أكن أدركها. رأيتُ كيف تتشكّل معارفُ الدين عبر التاريخ، وكيف ينتج كلُّ عصر فهمَه للنصّ، وتعلّمتُ كيف يؤثّر النصُّ الديني في الواقع، وكيف يتوالد تفسيرُ النصّ من الواقع، ورأيتُ نسيجَ العلاقات المجتمعية المعقدة وأثرَها المباشر في إنتاج أشكال المعارف الدينية المختلفة. 
 يبقى مؤلفُ هذا الكتاب مديناً للقرّاء الذين منحوه ثقتَهم، ولم ينقطع تواصلُهم المباشر معه بوسائل الاتصال المختلفة حتى اليوم، كلٌّ منهم يبدي وجهةَ نظره ورأيَه في القضايا التي أثارها الكتابُ إثباتاً ونفياً.

 آراءُ القرّاء وأسئلتُهم ومناقشاتُهم حثتني على التفكير مجدداً في قضايا لازمتْ تفكيري منذ بداية مطالعاتي ودراستي لمعارف الدين، وكنتُ فيما مضى أغلق التفكيرَ فيها بإجاباتٍ لم أجد الكثيرَ منها منطقياً اليوم، لذلك حاولتُ إثارتَها بشكل أدق، والسعيَ لتقديم إجابات لها، تتخذ القرآنَ مرجعيةً، والمناهجَ الحديثةَ في التأويل أدواتِ تبصّر في ما ترمي إليه مدلولاتُه. ويتضمن شيئاً من هذه الإجابات كتابي الجديد «الدين والاغتراب الميتافيزيقي»، الذي يتزامن صدورُ طبعته الأولى مع الطبعةِ الثالثة لهذا الكتاب، والطبعةِ الثالثة من كتابي «إنقاذ النزعة الإنسانية في الدين» الصادر عام 2010، والذي كان يمثّل الحلقةَ الأولى في مسعىً لإرساءِ لَبَناتِ فهمٍ للدين، وبوصلةٍ ترسم منطقَ فهمِ آيات الكتاب، من أجل بناء رؤية «إنسانية ايمانية» للدين، عساها تطلُّ بنا على أفق مضيء نرى فيه الدينَ من منظور مختلف، يصير فيه الدينُ دواءً لا داءً، والإيمانُ محرِّراً لا مستعبِداً، والتديّنُ حالةً روحانيةً أخلاقية جمالية تتجلى فيها أجملُ صورة لله والإنسان والعالَم.

وآمل أن تظلّ كتاباتي القادمةُ وفيةً لهذا النهج الذي خلصت إليه بعد رحلة تفكير وتأمل تواصلت لأكثر من أربعين عاماً من حياتي، واكبتُ فيها دراسةَ وتدريسَ معارف الدين، وعشتُ حياةً روحية وأخلاقية تكرّستْ اثر مكابداتِ صور مضادّة لها، تبدّتْ في سلوك بعض المتدينين، ممن تتخذُ شخصياتُهم أقنعةً دينيةً زائفة، تلتبسُ فيها القيمُ الرديئةُ بالأمراض الأخلاقية والنفسية، وتختبئ أحياناً خلف طقوس وشعائر صاخبة. 

 عبدالجبار الرفاعي



نوع الكتاب : pdf.
اذا اعجبك الكتاب فضلاً اضغط على أعجبني
و يمكنك تحميله من هنا:

تحميل  الدين والظمأ الأنطولوجي
عبد الجبار الرفاعى
عبد الجبار الرفاعى
Abdul Jabbar Al Rifai
بد الجبار الرفاعي، مفكر عراقي وأستاذ فلسفة إسلامية، مواليد ذي قار – العراق، سنة 1954.حاصل على عدة شهادات أكاديمية منها دكتوراه فلسفة إسلامية، بتقدير امتياز، 2005، وماجستير علم کلام، 1990،وبكالوريوس دراسات إسلامية، 1988، ودبلوم فني زراعي، 1975. وله رؤية فلسفية حول الإصلاح ومناهج التفكير الديني. ❰ له مجموعة من الإنجازات والمؤلفات أبرزها ❞ الدين واسئلة الحداثة ❝ ❞ مقدمة في علم الكلام الجديد ❝ ❞ مراجعة لكتاب: العقل والمعتقد الديني: مدخل إلى فلسفة الدين ❝ ❞ الشیخ أمین الخولي أول هِرْمِنیوطیقی في عالم الإسلام ❝ ❞ الدين والظمأ الأنطولوجي ❝ الناشرين : ❞ دار التنوير للطباعة والنشر ❝ ❞ دار نور المكتبات للنشر والتوزيع _ جدة ❝ ❱.



كتب اخرى في الفكر والفلسفة

اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعددية الدينية) PDF

قراءة و تحميل كتاب اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعددية الدينية) PDF مجانا

اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعاريف و الكليات) PDF

قراءة و تحميل كتاب اللاهوت المعاصر، دراسات نقدية (التعاريف و الكليات) PDF مجانا

علمنة علم النفس وتجربتي في علاج الاكتئاب PDF

قراءة و تحميل كتاب علمنة علم النفس وتجربتي في علاج الاكتئاب PDF مجانا

دينامية النص (تنظير وانجاز) PDF

قراءة و تحميل كتاب دينامية النص (تنظير وانجاز) PDF مجانا

عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين PDF

قراءة و تحميل كتاب عن الدين: خطابات لمحتقريه من المثقفين PDF مجانا

القرآن الكريم في روسيا PDF

قراءة و تحميل كتاب القرآن الكريم في روسيا PDF مجانا

دراسات في تاريخ علم الكلام والفلسفة PDF

قراءة و تحميل كتاب دراسات في تاريخ علم الكلام والفلسفة PDF مجانا

بنات إبراهيم: الفكر النسوي في اليهودية، والمسيحية، والإسلام PDF

قراءة و تحميل كتاب بنات إبراهيم: الفكر النسوي في اليهودية، والمسيحية، والإسلام PDF مجانا

المزيد من الفكر والفلسفة في مكتبة الفكر والفلسفة , المزيد من النجاح وتطوير الذات في مكتبة النجاح وتطوير الذات , المزيد من مقارنة الأديان في مكتبة مقارنة الأديان , المزيد من السياسة في مكتبة السياسة , المزيد من علم النفس في مكتبة علم النفس , المزيد من الهندسة الشاملة في مكتبة الهندسة الشاملة , المزيد من محمد صلى الله عليه وسلم في مكتبة محمد صلى الله عليه وسلم , المزيد من أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية في مكتبة أوراق المؤتمرات والملتقيات العلمية , المزيد من غير مصنفة في مكتبة غير مصنفة
عرض كل المكتبة التجريبية ..
اقرأ المزيد في مكتبة كتب إسلامية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تقنية المعلومات , اقرأ المزيد في مكتبة المناهج التعليمية والكتب الدراسية , اقرأ المزيد في مكتبة القصص والروايات والمجلّات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الهندسة والتكنولوجيا , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب والموسوعات العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب تعلم اللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التنمية البشرية , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب التعليمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب التاريخ , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأطفال قصص ومجلات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الطب , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب العلمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم سياسية وقانونية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأدب , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الروايات الأجنبية والعالمية , اقرأ المزيد في مكتبة كتب اللياقة البدنية والصحة العامة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب الأسرة والتربية الطبخ والديكور , اقرأ المزيد في مكتبة الكتب الغير مصنّفة , اقرأ المزيد في مكتبة كتب المعاجم واللغات , اقرأ المزيد في مكتبة كتب علوم عسكرية و قانون دولي
جميع مكتبات الكتب ..